ربما نحتاج الآن أكثر من أي وقتٍ مضى إلى أن نُقلِّب في صفحات السيرة العطرة بإمعان وتأمل، ربما نحن في حاجةٍ ماسةٍ الآن إلى نسقط أحداث مسيرة النبى الكريم صلى الله عليه وسلم على واقعنا، لنعرف ماذا حدث وماذا يحدث، وأين نحن من حركة التاريخ ومسيرة الإصلاح، أتذكر الآن جليًّا مقدمة الكثيرين ممن علمونا أحداث السيرة في المساجد أو على شاشات الفضائيات، فلقد كانوا يقولون: "إن السيرة ليست قصصًا تُحكى أو روايات تُتلى، الهدف منها فقط إثارة الانتباه وشغل الأذهان وملء الأسماع، وإنما السيرة ثمثل دروسًا عملية تلهم الحاضر وتعطي الأمل للمستقبل وترسم حركة التاريخ لكل مَن يريد الإصلاح ونصرة الدين ويحلم بتطبيق المشروع الإسلامي، ليراه يخرج من صفحات الكتب وبرامج الفضائيات ليسير بيننا وبجانبنا، يعيش بيننا نقبله ويقبلنا ويسعد بنا ونسعد به".
لقد مرَّت الثورة بمراحل صعود وهبوط حادة، وبينهما مراحل استقرار لم تدم طويلاً، وتأرجحت المشاعر بين الأمل الجارف والإحباط الشديد، ثم استعادة الأمل ثم الحيرة والألم، والفرق بين شخص سيكمل مسيرته ويصل إلى خط النهاية وبين شخص سيسقط في وسط الطريق أو يستسلم للمشكلات بعد أن يسلم نفسه للإحباط، هو أن الأول درس الطريق جيدًا وعرف عقباته ومطباته وعلم أن به مناطق "مضيئة" ومناطق "مظلمة"، وأماكن "آمنة" يسير فيها بهدوء وأمان، وأماكن أخرى "مهجورة" سينقض منها قطاع الطرق.
نحن في مرحلة صعبة بلا شك، والسيرة العطرة في حال كحالنا كهذه هي كنز حقيقي لنا؛ لأن بها خريطة طريق توضح لنا الطريق من أوله لآخره، وبمعرفة هذه الخريطة نستطيع أن نصل لنهاية الطريق، وسيكتب الله لنا النجاح بإذنه تعالى؛ لأننا سرنا على نهج من بعثه الله لنا هاديًا ومبشرًا ونذيرًا.
من أجل ذلك علينا أن نقل طائرة هيلوكابتر لدقائق، لنطوف سريعًا عبر ثلاث وعشرين عامًا جاهد فيها الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون، تحملوا فيها ما تحملوا، حتى استقرت الدولة الإسلامية، وبدأت مرحلة الانطلاق بعدها مع مسيرة الخلفاء الراشدين.
مراحل ثلاثة
لقد مرت السيرة بثلاث مراحل رئيسية..
المرحلة الأولى: مرحلة الفكرة
وهي مرحلة بدأت بالترقب من قريش باعتبارها فكرة ضمن أفكار أخرى توجد بالجزيرة العربية، ثم تحول الترقب إلى توجس بعدما لوحظ انتشار الفكرة بقوة، ثم تحول التوجس إلى عداء واضح وصريح بعد ما تيقنت السلطة السياسية في مكة و السلطة المالية (مجتمع التجار أو رجال الأعمال) أن الفكرة الجديدة إذا نجحت فهي تعني التأسيس لنظام جديد سيثور على السلطة الحاكمة ويضر بمصالح رجال الأعمال.
المرحلة الثانية: مرحلة الأمل
وبدأت هذه المرحلة بعد الهجرة من مكةَ إلى المدينة، وهي المرحلة التي تنفس فيها المسلمون الصعداء بعد ثلاثة عشر عامًا من الاضطهاد والتنكيل والتعذيب والحصار، إلى أن إذن الله لهم بمستقر جديد أعطاهم الحرية ومكنهم من بداية وضع أسس للدولة الإسلامية، ورغم بعد المسافة بين مكة والمدينة، إلا أن صراع الأيدلوجيات بدأ بالفعل، وتيقنت الجزيرة العربية أن صعود الفكرة الإسلامية يعني انهزام أفكارهم وتصدير فكرة الإسلام لباقي الجزيرة، ومن هنا بدأ استخدام العنف ممثلاً في الصدام المسلح الذي بدأ بغزوة بدر ثم غزو أحد ثم غزوة الأحزاب.
كان أعنف ما واجهه المسلمون في هذه المرحلة هي هزيمة أحد، وهي الهزيمة التي سببت آلامًا نفسية رهيبة للمسلمين، وتطلب الأمر أن ينزل الله سبحانه وتعالى آيات حتى يبث الأمل في النفوس ويعيد التوازن إلى المسلمين من جديد.
كانت هذه المرحلة عند المسلمين تمثل (المنطقة المظلمة) التي تخللت مرحلة الأمل، وهي منطقة غاية في الصعوبة تصاب فيها النفوس بالإحباط وتكثر الأسئلة في الأذهان، ويطول فيها انتظار الإجابات وتتوقف حركة الانطلاق.
أعقب هذه المرحلة مرحلة كان فيها رد الفعل أكثر من الفعل، مرحلة كثرت فيها المؤامرات من كل اتجاه، مرحلة أغرت مكة والجزيرة العربية بالتحرك للإجهاز على المشروع الإسلامي إلى الأبد في (غزوة ألأحزاب)، إلا أن الله خيب ظنهم، ونجا المشروع الإسلامي من المؤامرة الكبرى في تاريخ الصراع بين فكرة الإسلام وفكرة الجاهلية.
المرحلة الثالثة: مرحلة الانطلاق
مع نهاية غزوة الأحزاب انتهت مرحلة رد الفعل "اليوم نغزوهم ولا يغزوننا" ليأتي بعده بعام وفي السادسة من الهجرة (صلح الحديبية)، ليمثل انتصارًا سياسيًّا يحمل رؤية مستقبلية فريدة، ثم يكتمل الانتصار السياسي ويتوج بانتصار عسكري كاسح في فتح مكة بعدها بعامين، لتبدأ بعده مرحلة الاستقرار والانطلاق والبناء.
خطوات عملية
لو قرأنا السيرة بهذه الطريقة لأمكننا أن نرى في أي مرحلة نحن، وعلى أي مرحلة نحن مقبلون، وعليه فإننا نستطيع أن نحدد الخطوات العملية التي تنقلنا إلى المرحلة التي تليها، وأقترح بعضًا من هذه الخطوات:
أولاً: بث الأمل في النفوس وذلك عن طريق:
1- توضيح الرؤية الحالية (تصحيح معلومات- ضخ معلومات جديدة- توضيح المشكلات والتحديات).
2- وضع رؤية للحل وتوضيحها.
قال تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)
قال تعالى: (إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30)) (الكهف)
ثانيًا: رفع المشاعر الإيمانية المتعلقة بالصبر وتحمل الأذى والثقة في الله والتوكل عليه والمذلة له والتضرع إليه بالدعاء.. قال تعالى: (الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون).
ثالثًا: وضع حلول إبداعية لملء الفراغ الإعلامي الموجود على الساحة، كي يحدث على الأقل خلخلة في الأفكار.
رابعًا: دفع الجميع للحركة الدائبة في إنجاز أهم الأولويات المطلوبة في الشارع.
إن أمر الله غالب، ودين الله لن يغلبه أحد، لكن نواميس الكون غلابة، والنصر له أسبابه، نستطيع أن نأخذ بها، ولتكن السيرة النبوية نورًا لنا على الطريق، فلنقرأ السيرة من جديد، لنقف على واقعنا، ونعرف أين نحن، وكيف نصل إلى ما نريد.. (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ).
Posting Komentar
Kontak Gema Dakwah : tarqiyahonline@gmail.com